الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
وإذا مات المقذوف قبل المطالبة بالحد سقط, ولم يكن لورثته الطلب به وقال أصحاب الشافعي يورث وإن لم يكن طالب به لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من ترك حقا فلورثته) ولأنه حق ثبت له في الحياة يورث إذا طالب به, فيورث وإن لم يطالب به كحق القصاص ولنا أنه حد تعتبر فيه المطالبة, فإذا لم يوجد الطلب من المالك لم يجب كحد القطع في السرقة, والحديث يدل على أن الحق المتروك يورث وهذا ليس بمتروك وأما حق القصاص, فإنه حق يجوز الاعتياض عنه وينتقل إلى المال بخلاف ما نحن فيه, فأما إن طالب به ثم مات فإنه ترثه العصبات من النسب دون غيرهم لأنه حق يثبت لدفع العار فاختص به العصبات, كولاية النكاح وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي ومتى ثبت للعصبات فلهم استيفاؤه وإن طلب أحدهم وحده فله استيفاؤه وإن عفي بعضهم, لم يسقط وكان للباقين استيفاؤه ولو بقي واحد كان له استيفاء جميعه لأنه حق يراد للردع والزجر, فلم يتبعض كسائر الحدود ولا يسقط بإسقاط البعض لأنه يراد لدفع العار عن المقذوف, وكل واحد من العصبات يقوم مقامه في استيفائه فيثبت له جميعه كولاية النكاح, ويفارق حق القصاص لأن ذلك يفوت إلى بدل ولو أسقطناه ها هنا لسقط حق غير العافي إلى غير بدل فعلى هذا, لو قذف امرأته فماتت بعد المطالبة ولها أحد من عصباتها غيره فله استيفاؤه, وإن كان زوجها عصبتها وليس لها أحد سواه سقط وإن كان لها من عصبتها غيره, فله الطلب به ولا يسقط بما ذكرنا من أنه يكمل لكل واحد, بخلاف القصاص. وإذا قذف امرأته وله بينة تشهد بزناها, فهو مخير بين لعانها وبين إقامة البينة لأنهما بينتان فكانت له الخيرة في إقامة أيتهما شاء كمن له بدين شاهدان وشاهد وامرأتان, ولأن كل واحدة منهما يحصل بها ما لا يحصل بالأخرى فإنه يحصل باللعان نفي النسب الباطل ولا يحصل ذلك بالبينة, ويحصل بالبينة ثبوت زناها وإقامة الحد عليها ولا يحصل باللعان, فإن لاعنها ونفى ولدها ثم أراد إقامة البينة فله ذلك, فإذا أقامها ثبت موجب اللعان وموجب البينة وإن أقام البينة أولا, ثبت الزنا وموجبه ولم ينتف عنه الولد فإنه لا يلزم من الزنا كون الولد منه وإن أراد لعانها بعد ذلك وليس بينهما ولد يريد نفيه, لم يكن له ذلك لأن الحد قد انتفى عنه بإقامة البينة فلا حاجة إليه وإن كان بينهما ولد يريد نفيه, فعلى قول القاضي له أن يلاعن وقد ذكرنا ذلك فيما مضى. وإن قذفها فطالبته بالحد, فأقام شاهدين على إقرارها بالزنا سقط عنه الحد لأنه ثبت تصديقها إياه ولم يجب عليها الحد لأن الحد لا يجب إلا بالإقرار أربع مرات, ويسقط بالرجوع عن الإقرار وهل يثبت الإقرار بالزنا بشاهدين؟ قال أبو بكر: فيه قولان: أحدهما يثبت بشاهدين, كسائر الأقارير واختاره والثاني لا يثبت لأنه لا يثبت به المقر به فلا يثبت به الإقرار به, كرجل وامرأتين وإن لم تكن له بينة حاضرة فقال: لي بينة غائبة أقيمها على الزنا أمهل اليومين والثلاثة لأن ذلك قريب, فإن أتى بالبينة وإلا حد إلا أن يلاعن إذا كان زوجا فإن قال: قذفتها وهي صغيرة وقالت: قذفني وأنا كبيرة وأقام كل واحد منهما بينة بما قال, فهما قذفان وكذلك إن اختلفا في الكفر والرق أو الوقت لأنه لا تنافي بينهما إلا أن يكونا مؤرخين تأريخا واحدا فيسقطان في أحد الوجهين, وفي الآخر يقرع بينهما فمن خرجت قرعته, قدمت بينته. فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانة وقذفنا لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعداوته لهما وشهادة العدو لا تقبل على عدوه فإن أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بذلك القذف, لم تقبل لأنها ردت للتهمة فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ثم تاب وأعادها ولو أنهما ادعيا عليه أنه قذفهما, ثم أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما لأنهما لم يردا في هذه الشهادة ولو شهدا أنه قذف امرأته, ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما بطلت شهادتهما لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه وإن لم يضيفاها إلى ذلك الوقت, وكان ذلك قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين وإن كانا بعد الحكم, لم يبطل لأن الحكم تم قبل وجود المانع كظهور الفسق وإن شهدا أنه قذف امرأته وأمنا لم تقبل شهادتهما لأنها ردت في البعض للتهمة, فوجب أن ترد للكل وإن شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت شهادتهما وبهذا قال مالك وأبو حنيفة, والشافعي في الجديد وقال في القديم: لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو أنه يلاعنها فتبين, ويتوفر على أمهما وليس بشيء لأن لعانه لها ينبني على معرفته بزناها لا على الشهادة عليه بما لا يعترف به وإن شهدا بطلاق الضرة, ففيه وجهان: أحدهما لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو توفيره على أمهما والثاني, تقبل لأنهما لا يجران إلى أنفسهما نفعا. ولو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر أنه أقر بذلك بالعجمية, تمت الشهادة لأن الاختلاف في العربية والعجمية عائد إلى الإقرار دون القذف ويجوز أن يكون القذف واحدا والإقرار به في مرتين, وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها وشهد آخر أنه أقر بذلك يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية, وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية أو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة, أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفها بالعربية أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة ففيه وجهان: أحدهما, تكمل الشهادة وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لأن الوقت ليس ذكره شرطا في الشهادة بالقذف وكذلك اللسان, فلم يؤثر الاختلاف كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم الخميس بالعربية وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية والآخر لا تكمل الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما, فلم تثبت كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة, وفارق الإقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين. قال: [فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما, لم يجتمعا أبدا] في هذه المسألة: مسألتان: المسألة: الأولى: أن الفرقة بين المتلاعنين لا تحصل إلا بلعانهما جميعا وهل يعتبر تفريق الحاكم بينهما؟ فيه روايتان: إحداهما أنه معتبر فلا تحصل الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما وهو ظاهر كلام الخرقي, وقول أصحاب الرأي لقول ابن عباس في حديثه: ففرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله وفي حديث عويمر قال: كذبت عليها يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا يقتضي إمكان إمساكها وأنه وقع طلاقه, ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لما وقع طلاقه ولا أمكنه إمساكها ولأن سبب هذه الفرقة يقف على الحاكم, فالفرقة المتعلقة به لم تقع إلا بحكم الحاكم كفرقة العنة والرواية الثانية تحصل الفرقة بمجرد لعانهما وهي اختيار أبي بكر, وقول مالك وأبي عبيد عنه وأبي ثور, وداود وزفر وابن المنذر وروي ذلك عن ابن عباس لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: المتلاعنان يفرق بينهما, ولا يجتمعان أبدا رواه سعيد ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع, ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهاه كالتفريق للعيب والإعسار, ولوجب أن الحاكم إذا لم يفرق بينهما أن يبقي النكاح مستمرا وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لا سبيل لك عليها) يدل على هذا, وتفريقه بينهما بمعنى إعلامه لهما بحصول الفرقة وعلى كلتا الروايتين, لا تحصل الفرقة قبل تمام اللعان منهما وقال الشافعي - -رحمه الله- تعالى -: تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده وإن لم تلتعن المرأة لأنها فرقة حاصلة بالقول, فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق ولا نعلم أحدا وافق الشافعي على هذا القول وحكي عن البتي أنه لا يتعلق باللعان فرقة لما روي أن العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا, فأنفذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه وكلا القولين لا يصح لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرق بين المتلاعنين رواه عبد الله بن عمر, وسهل بن سعد وأخرجهما مسلم وقال سهل: فكانت سنة لمن كان بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين وقال عمر: المتلاعنان يفرق بينهما, ثم لا يجتمعان أبدا وأما القول الآخر فلا يصح لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما, وإنما فرق النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما بعد تمام اللعان منهما فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكم يخالف مدلول السنة وفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ولأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه إما أيمان على زناها, أو شهادة بذلك ولولا ورود الشرع بالتفريق بينهما لم يحصل التفريق, وإنما ورد الشرع به بعد لعانهما فلا يجوز تعليقه على بعضه كما لم يجز تعليقه على بعض لعان الزوج, ولأنه فسخ ثبت بأيمان مختلفين فلم يثبت بيمين أحدهما كالفسخ لتحالف المتبايعين عند الاختلاف, ويبطل ما ذكروه بالفسخ بالعيب أو العتق وقول الزوج: اختاري وأمرك بيدك أو: وهبتك لأهلك أو لنفسك وأشباه ذلك كثير إذا ثبت هذا فإن قلنا: إن الفرقة تحصل بلعانهما فلا تحصل إلا بعد إكمال اللعان منهما وإن قلنا: لا تحصل إلا بتفريق الحاكم لم يجز له أن يفرق بينهما إلا بعد كمال لعانهما, فإن فرق قبل ذلك كان تفريقه باطلا وجوده كعدمه وبهذا قال مالك وقال الشافعي: لا تقع الفرقة حتى يكمل الزوج لعانه وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: إذا فرق بينهما بعد أن لاعن كل واحد منهما ثلاث مرات, أخطأ السنة والفرقة جائزة وإن فرق بينهما بأقل من ثلاث, فالفرقة باطلة لأن من أتى بالثلاث فقد أتى بالأكثر فيتعلق الحكم به ولنا أنه تفريق قبل تمام اللعان فلم يصح, كما لو فرق بينهما لأقل من ثلاث أو قبل لعان المرأة ولأنها أيمان مشروعة, لا يجوز للحاكم الحكم قبلها بالإجماع فإذا حكم لم يصح حكمه كأيمان المختلفين في البيع وكما قبل الثلاث, ولأن الشرع إنما ورد بالتفريق بعد كمال السبب فلم يجز قبله كسائر الأسباب وما ذكروه تحكم لا دليل عليه, ولا أصل له ثم يبطل بما إذا شهد بالدين رجل وامرأة واحدة أو بمن توجهت عليه اليمين إذا أتى بأكثر حروفها وبالمسابقة إذا قال: من سبق إلى خمس إصابات فسبق إلى ثلاثة, وبسائر الأسباب فأما إذا تم اللعان فللحاكم أن يفرق بينهما من غير استئذانهما لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فرق بين المتلاعنين ولم يستأذنهما وروى مالك, عن نافع عن ابن عمر (أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانتفى من ولدها ففرق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهما, وألحق الولد بالمرأة) وروى سفيان عن الزهري عن سهل بن سعد, قال: (شهدت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرق بين المتلاعنين) أخرجهما سعيد ومتى قلنا: إن الفرقة لا تحصل إلا بتفريق الحاكم فلم يفرق بينهما فالنكاح باق بحاله لأن ما يبطل النكاح لم يوجد فأشبه ما لو لم يلاعن.
|